فضيلةُ التعفف
إن الحمد للهِ
نحمدهُ ونستعينهُ ونستهديه ونشكرهُ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا،
من يهدِ اللهُ فلا مُضلَّ له ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له ولا مثيل له، ولا ضد ولا ند له، وأشهد أن سيدنا وحبينا وعظيمنا وقائدنا
وقرة أعيننا محمدًا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم وعلى كل رسول
أرسله.
أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي القدير القائل في
محكم كتابه: {يا أيُّها
الذينَ ءامنوا اتقوا اللهَ ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغد واتقوا اللهَ إنَّ اللهَ خبير
بما تعملون} [سورة الحشر/18].
كلامنا اليوم، إخوة
الإيمان، عن موضوع بالغ الأهمية وقلَّ منَ الناس مَنْ يتكلمُ فيه وقلَّ من الناس من
يحثُّ عليه، بل كثيرٌ يدفعون بعضهم البعض إلى عكسه. كلامنا اليوم عن
التعفف.
فاسمعوا معي كيف مدح القرءان العظيم أهل
الصفةِ وتعففهم حيثُ قال ربنا تبارك وتعالى: {للفُقراءِ الذينَ أُحْصِروا في سبيلِ اللهِ لا
يستطيعونَ ضربًا في الأرضِ يَحْسَبُهُمُ الجاهلُ أغنياءَ منَ التعفُّفِ تعرفُهُم
بِسِيمهمْ لا يسئلونَ الناسَ إلحافًا وما تُنفِقوا مِنْ خيرٍ فإنَّ اللهَ بهِ
عليمٌ} [سورة البقرة/273].
هؤلاء الذين تعففوا عن السؤال،
تعففوا عنِ المسألةِ، تعففوا عن
الطلب،
عن طلبِ المال من الناسِ فيحسبهم من لا يعرفُ حالهم أغنياء
لإظهارهم التحمل وتركهم المسألة أي طلب المال.
ومن هؤلاء، إخوة
الإيمان،
أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي كان يُغشى عليه من شدةِ ألم الجوع ولم يلجأ إلى أكل المال الحرام.
فعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: "والله
الذي لا إله إلا هو إنْ كنتُ لأعتمدُ بكبدي على الأرض من
الجوعِ"
\
تخيَّلْ معي أخي المؤمن صاحبًا من أصحاب
محمدٍ من خيرة أصحاب محمد يعتمد بكبده على الأرض من
الجوع،
قال رضي الله عنه: "وإن كنتُ لأشدُّ الحجرَ على بطني من الجوع ولقد
قعدتُ يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه [أي ليدعوه أحدهم] فمرَّ بي النبي صلى الله عليه وسلم فتبسمَ حين
رءاني وعرفَ ما في وجهي وما في نفسي ثم قال: أبا هِرّ، قلتُ: لبيك يا رسول الله"!! يا حبيبي يا رسول الله، يا نبي
الرحمة والمرحمة!! الفقيرُ
الجائعُ الذي يعتمد بكبده على الأرض يتلطف به رسول الله ويقول له "أبا هر" وهو مع
جوعه وألمهِ يقول "لبيك يا رسول
الله".
يتابع أبو هريرة قائلاً: "قال: الحقْ، ومضى، فاتّبعته، فدخل
فاستأذنَ فأُذِنَ لي، فدخلتُ فوجد لبنًا [أي حليبًا] في قدح فقال رسول الله: "من
أين هذا اللبن؟ قالوا أهداهُ لك فلانٌ أو فلانة قال: أبا هر،
قلت: لبيك يا رسول
الله، قال: الحقْ إلى أهل
الصفةِ فادعهم لي،
قال:
وأهل الصفةِ أضياف الإسلام لا
يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، وكان إذا أتتهُ صدقةٌ بعثَ بها إليهم ولم
يتناول منها شيئًا، وإذا أتتهُ هديةٌ أرسلَ إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني
ذلك [أي قد يفوتني منها نصيب] فقلت: وما هذا
اللبن في أهل الصفة؟ [يعني
أبو هريرة أن هذا اللبن قليلٌ جدًا بالنسبة لأهل الصفة وكان عددهم قريب المائتين]
قال: كنتُ أحق أن أصيبَ من هذا
اللبن شربة أتقوّى بها، فإذا جاؤوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من
هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة
الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدٌّ [أي لا بد من طاعة الله وطاعة رسول
الله]. قال رضي الله عنه: "فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا واستأذنوا فأُذن لهم وأخذوا مجالسهم من
البيت. قال: أبا هر، قلت:
لبيكَ يا رسول الله، قال: خذ فأعطيهم، قال: فأخذتُ القدحَ فجعلتُ أعطيه الرجل فيشربُ حتى يروى، ثم يردَّ عليَّ
القدح حتى انتيهتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم"!! فهذا من معجزات
محمد، هذا من بركات محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
قال أبو هريرة: "فجعلتُ أعطيه
الرجل فيشرب حتى يَروى ثم يَرُدَّ عليَّ القدح حتى انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه
وسلم وقد رويَ القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسمَ فقال: أبا هر،
قلت: لبيك يا رسول
الله، قال: بقيتُ أنا وأنت،
قلتُ: صدقتَ يا رسول
الله، قال: اقعد فاشرب،
فقعدتُ فشربتُ، فقال: اشرب
فشربتُ فما زال يقول اشرب حتى قلت: لا والذي بعثكَ بالحق لا أجد له
مسلكًا، قال: فأرني، فأعطيتهُ القدح فحمد الله تعالى
وسمى وشرب الفضلة صلى الله عليه وسلم".
فيا أخي المؤمن، ارفع نفسك بالتقوى فإنَّ عِزَّها بتقوى الله ولا تُعْطِ نفسكَ هواها
فإنّ شفاءها بمخالفتها فإن كنتَ ممن لا تستحق الصدقة فلا تطلبها،
فقد قال عليه
الصلاة والسلام: "لا تحلُّ
المسألة لغنيّ ولا لذي مرةٍ سويّ".
أي: لا تحلُّ الشحاذة لمُكتفٍ ولا
لشخصٍ قويّ يستطيع الكسب.
ولقد رُويَ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
"إنَّ الله يحبُّ العفيفَ المتعففَ ويُبغضُ الفاحشَ البذيءَ السائلَ
المُلحفَ الذي إنْ أُعطيَ كثيرًا أفرطَ في المدحِ وإن أُعطيَ قليلاً أفرطَ في
الذم".
فيا أخي المؤمن
عوِّدْ نفسكَ القناعةَ، اقنع
بما قسمهُ الله لكَ في أمر الزوجةِ والنفقةِ والمسكن ولا تنظر إلى مَنْ هوَ أعلى
منكَ في أمر الدنيا بل انظر إلى من هو دونك تحمد الله على ما أنت
فيه.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "القناعة كنزٌ لا
يفنى" أي كأنها لا تفنى.
فكم وكم من أشخاص يأكلون المال الحرام باسم الفقر وباسم الحاجةِ وهم
ليسوا من أهل الحاجة،
فقد وجدَ في متاع صحابي ديناران من ذهب وكان هو ممن يأخذ
الصدقة فقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيَّتانِ من نار".
وقال عليه الصلاة والسلام في
حديث ءاخر: "كلُّ
لحمٍ نبتَ من سُحت –أي من حرام- فالنار أولى به".
اللهم جنبنا الحرام وارزقنا التُقى
والغنى والعفاف والعفة والتعفف يا أرحم الراحمين يا رب العالمين يا
الله.
هذا وأستغفر الله لي ولكم
_________________
رَبـِّ اجْعَل حَيَآتِي ( أَجْمَل ) مِن كُل التَوَقعَآت